كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيرا في إبصاره: فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا.
فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هو أولى باسم النور أم لا.
واعلم أن في قلب الإنسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني. ودع عنك العبارات فإنها إذا كثرت أوهمت عند ضعيف البصيرة كثرة المعاني. فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه عقلا متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع وهو أن العين لا تبصر نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه: إذ يدرك نفسه عالما وقادرا: ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية. وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام. ووراء سر يطول شرحه.
والثاني أن العين لا تبصر ما بعد منها ولا ما قرب منها قربا مفرطا: والعقل يستوي عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفه إلى أعلى السموات رقيا، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هربا. بل إذا حقت الحقائق يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معاني القرب والبعد الذي يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة. وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله عليه السلام: «إن الله خلق آدم على صورته» فلست أرى الخوض فيه الآن.
الثالث أن العين لا تدرك ما وراء الحجب، والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السموات، وفي الملأ الأعلى والملكوت الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعني بدنه الخاص. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل. وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نفسه لنفسه بسبب صفات هي مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان. وستعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب.
الرابع أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حقائقها. والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها من خلق، وكيف خلق، ولم خلق، ومن كم معنى جمع وركب، وعلى أي مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته، إلى مباحث أُخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى.
الخامس أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات: إذ لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة: أعني قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعة مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات: فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها.
فالموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعدها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينا صادقا. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعاني الخفية عنده جلية. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها لكنها ظلمة بالإضافة إليه. بل هي جاسوس من جواسيسه وكله بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ.
والحواس الخمس جواسيسه. وله في الباطن جواسيس سواها من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ؛ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الخاص يستسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد. وشرح ذلك يطول. وقد ذكرناه في كتاب عجاب القلب من كتاب الإحياء.
السادس أن العين لاتبصر ما لا نهاية له، فاإنها تبصر صفات الأجسام والأجسام لاتتصور إلامتناهية. والعقل يدرك المعلومات، والمعلومات لايتصور أن تكون متناهية.
نعم إذا لاحظ العلوم المفصله فلا يكون الحاظر الحاصل عنده إلا متناهيا. لكن في قوته إدراك ما لانهاية له. وشرح ذلك يطول.
فإن أردت له مثالا فخذه من الجليات، فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الإثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية. ويدرك أنواعا من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهي عليها: بل يدرك علمه بالشىء وعلمه بعلمه بالشيء، وعلمه بعلمه بعلمه. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية.
السابع أن العين تبصر الكبير صغيرا، فترى الشمس في مقدار مجن والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق. والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكنا، وترى الصبي ساكنا في مقداره، والعقل يدرك أن الصبي متحرك في النشوء والتزايد على الدوام، والظل متحرك دائما، والكواكب تتحرك في كل لحظ أميالا كثيرة كما قال صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: أزالت الشمس فقال لا: نعم قال كيف قال منذ قلت لا إلى أن قلت نعم،: قد تحرك مسيرة خمسمائة سنة.
وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها. فإن قلت: نرى العقلاء يغلطون في نظرهم فاعلم أن فيهم خيالات وأوهاما واعتقادات يظنون أحكامها أحكام العقل؛ فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب معيار العلم وكتاب محك النظر.
فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط؛ بل رأى الأشياء على ما هي عليه، وفي تجريده عسر عظيم. وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت، وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلي الأسرار ويصادف كل أحد ما قدم من خير أو شر محضرا؛ ويشاهد كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعنده يقال، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم وغيرهما؛ وعنده يقول المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة {رَبَّنا أَبصَرنا وَسَمِعنا فَاَرجِعنا نَعمَل صالِحًا} الآية.
فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين. بل بينهما من التفاوت ما يصح معه أن يقال إنه أولى بل الحق أنه المستحق للاسم دونه.
دقيقة:
اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة، فليست المبصرات كلها عندها على وتيرة واحدة، بل بعضها يكون عندها كأنه حاضر كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشيء الواحد لا يكون قديما حادثا ولا يكون موجودا معدوما، والقول الواحد لا يكون صدقا وكذبا، وأن الحكم إذا ثبت للشيء جوازه ثبت لمثله، وأن الأخص إذا كان موجودا كان الأعم واجب الوجود: فإذا وجد السواد فقد وجد اللون، وإذا وجد الإنسان فقد وجد الحيوان. وأما عكسه فلا يلزم في العقل، إذ لا يلزم من وجود اللون وجود السواد ولا من وجود الحيوان وجود لإنسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية في الواجبات والجائزات والمستحيلات. ومنها ما لا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستوري زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات. وإنما ينبهه كلام الحكمة، فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصرا بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى. ومن جملة كلامه القرآن خاصة، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة إذ به يتم الإبصار. فبالحرىّ أن يسمى القرآن نورا كما يسمى نور الشمس نورا فمثال القرآن نور الشمس ومثال العقل نور العين. وبهذا نفهم معنى قوله: {فَآمِنوا بِاللَهِ وَرَسولِهِ وَالنورِ الَّذي أَنزَلنا} وقوله: {قَد جاءَكُم بُرهانٌ مِن رَبِكُم وَأَنزَلنا إِليكُم نورًا مُّبينًا}.
تكملة هذه الدقيقة:
فقد فهمت من هذا أن العين عينان: ظاهرة وباطنة: فالظاهرة من عالم الحس والشهادة، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت. ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة؛ والظاهرة من عالم الشهادة وهي الشمس المحسوسة. والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب الله تعالى المنزلة.
ومهما انكشف لك هذا انكشافا تاما فقد انفتح لك أول باب من أبواب الملكوت. وفي هذا العالم عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة. وإن لم يسافر إلى هذا العالم، وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة بعد، محروم عن خاصية الإنسانية؛ بل أضل من البهيمة إذ لم تسعد البهيمة بأجنحة الطيران إلى هذا العالم. ولذلك قال الله تعالى: {أُولَئِكَ كالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ}.
وأعلم أن الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بالإضافة إلى اللب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، وكالظلمة بالإضافة إلى النور، كالسفل بالإضافة إلى العلو. ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النوراني. وفي مقابلته السفلي والجسماني والظلماني.
ولا تظن أنّا نعني بالعالم العلوي السموات فإنها علو وفوق في حق عالم الشهادة والحس، ويشارك في إدراكه البهائم. وأما العبد فلا يفتح له باب الملكوت ولا يصير ملكوتيا إلا ويبدل في حقه الأرض غير الأرض والسموات فيصير كل داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السموات، وكل ما ارتفع عن الحس فسماؤه وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية. فالإنسان مردود إلى أسفل السافلين، ومنه يترقى إلى العالم الأعلى. وأما الملائكة فإنهم جملة عالم الملكوت عاكفون في حضرة القدوس، ومنها يشرفون إلى العالم الأسفل. ولذلك قال عليه السلام: «إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم أفاض عليهم من نوره» وقال: «إن لله ملائكة هو أعلم بأعمال الناس منهم» والأنبياء إذا بلغ معراجهم المبلغ الأقصى وأشرقوا منه إلى السفل ونظروا من فوق إلى تحت اطلعوا أيضا على قلوب العباد وأشرفوا على جملة من علوم الغيب: إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله تعالى: {وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ} أي من عنده تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة؛ وعالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم، يجري منه مجرى الظل بالإضافة إلى السبب. ومفاتيح معرفة المسببات لا توجد إلا من الأسباب، ولذلك كان عالم الشهادة مثالا لعالم الملكوت كما سيأتي في بيان المشكاة والمصباح والشجرة: لأن المسبب لا يخلو عن موازاة السبب ومحاكاته نوعا من المحاكاة على قرب أو على بعد.
وهذا لأن له غورا عميقا ومن اطلع على كنه حقيقته انكشف له حقائق أمثلة القرآن على يسر.
دقيقة ترجع إلى حقيقة النور:
فنقول إن كان ما يبصر نفسه وغيره أولى باسم النور، فإن كان من جملة ما يبصر به غيره أيضا مع أنه يبصر نفسه وغيره، فهو أولى، باسم النور من الذي لا يؤثر في غيره أصلا، بل بالحري أن يسمى سراجا منيرا لفيضان أنواره على غيره. وهذه الخاصية توجد للروح القدسي النبوي إذ تفيض بواسطته أنواع المعارف على الخلائق. وبهذا نفهم معنى تسمية الله محمدا عليه السلام سراجا منيرا. والأنبياء كلهم سرج، وكذلك العلماء. ولكن التفاوت بينهم لا يحصى.
دقيقة:
إذا كان اللائق بالذي يستفاد منه نور الإبصار أن يسمى سراجا منيرا فالذي يقتبس منه السراج في نفسه جدير بأن يكنى عنه بالنار. وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية. فالروح القدسي النبوي يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار. ولكن إنما يصير نورا على نور إذا مسته النار.
وبالحرىّ أن يكون مقتبس الأرواح الأرضية هي الروح الإلهية العلوية التي وصفها علي وابن عباس رضي الله عنهما فقالا: إن لله ملكا له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل يوم القيامة {يَومَ يَقومُ الرّوحُ والمَلائِكةُ صَفًّا} فهي إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السّرج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار، وذلك لا يؤانس إلا من جانب الطور.